فصل: علم الصحابة بالقرآن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المدخل لدراسة القرآن الكريم



.علم الصحابة بالقرآن:

وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحرصون غاية الحرص على حفظ ما ينزل من القرآن على حسب ما يتيسر لكل واحد منهم وتفاوتهم في الحفظ قلة وكثرة، كما كانوا يعرفون من معاني القرآن وعلومه وأسراره الشيء الكثير، لكونهم عربا خلّصا متمتعين بمزايا هذه العروبة ومن صفاء القلوب، وذكاء العقول، وسيلان الأذهان، وقوة الحافظة ولأنهم شاهدوا الوحي والتنزيل، وعلموا من الظروف والملابسات ما لم يعلمه غيرهم، وسمعوا من النبي صلى الله عليه وسلم ما لم يسمعه غيرهم، ورأوا من أحواله ما لم يره غيرهم، وكان ابن مسعود رضي الله عنه من أعلم الصحابة بعلوم القرآن ولاسيما علم أسباب النزول، وعلم المكي والمدني، وعلم قراءاته، روى البخاري بسنده عنه أنه قال: والله الذي لا إله غيره ما من آية من كتاب الله إلا وأعلم أين نزلت وفيم نزلت ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه المطي لركبت إليه.
فإن خفي عليهم من القرآن شيء لم يدركوه بفطرتهم اللغوية، ومعارفهم المكتسبة، رجعوا فيه إلى النبي فيعلمهم إياه، فمن ثمّ تجمع لهم من علم القرآن شيء كثير.
روى البخاري أنه لما نزل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [سورة الأنعام: 82] اهتم الصحابة، وقالوا: أينا لم يظلم نفسه فبين لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالظلم:
الشرك، أخذا من قول الله تعالى: {يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [سورة لقمان: 13].
وروى البخاري: أنه لما نزل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [سورة البقرة: 187] عمد عدي ابن حاتم إلى عقالين، أحدهما: أبيض، والآخر: أسود، ووضعهما تحت وسادة حتى بين له النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بالخيطين بياض النهار وسواد الليل... وغير ذلك كثير.
ولم يكن همّ الصحابة حفظ ألفاظ القرآن فحسب؛ بل جمعوا إلى حفظ اللفظ فهم المعنى، وتدبر المراد، والعمل بمقتضى ما تضمنه من الأحكام والآداب.
قال أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا الذين كانوا يقرءوننا القرآن، كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود، وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات، لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة الواحدة، وهذا هو السر فيما روي أن ابن عمر أقام على حفظ البقرة ثمان سنين ذكره مالك في الموطأ، وما يفسر لنا قول أنس رضي الله عنه: كان الرجل إذا قرأ البقرة وال عمران جد في أعيننا أي: عظم.
وعلى ما كان عليه الصحابة من العروبة الخالصة، والتصرف في فنون القول، وأخذهم بزمام الفصاحة، فقد خفيت عليهم بعض ألفاظ القرآن اللغوية، ولم يعرفوا معناها.
أخرج أبو عبيد في الفضائل عن إبراهيم التيمي: أن أبا بكر- الصديق- سئل عن قوله تعالى: {وَفاكِهَةً وَأَبًّا} [سورة عبس: 31] فقال: أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم، وفي سنده انقطاع لأن إبراهيم التيمي لم يلق الصديق.
وأخرج عن أنس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ على المنبر: {وَفاكِهَةً وَأَبًّا} فقال: هذه الفاكهة قد عرفناها.. فما الأب ثم رجع إلى نفسه فقال: إن هذا لهو الكلف يا عمر؛ وما عليك يا ابن أم عمر أن لا تدري: ما الأبّ.
لأن عدم معرفة معنى كلمة من القرآن لا تضر المسلم ما دام حافظا للقرآن عاملا بكل ما فيه من الأحكام والآداب.
وأخرج أيضا من طريق مجاهد عن ابن عباس قال: كنت لا أدري ما فاطر السموات حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي ابتدأتها.
وروي عنه أيضا أنه قال: ما كنت أدري ما قوله: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 89] حتى سمعت بنت ذي يزن- وقد جرى بيني وبينها كلام- تقول: تعال أفاتحك تريد، أقاضيك وأخاصمك.
وبلّغ الصحابة ما حملوه عن النبي صلى الله عليه وسلم من تفسير القرآن وعلومه، وما فهموه منه باجتهادهم إلى من جاء بعدهم من التابعين، وبلّغه التابعون إلى من جاء بعدهم، فقد كان المعول عليه في القرون الأولى، في علوم القرآن وكذلك الحديث وعلومه- هو الرواية والتلقي عن الغير والمشافهة لا على الخط والكتابة في الصحف وقد استمر الأمر على هذا، إلى أن جاء عصر التدوين، فدونت المعارف والعلوم في الصحف، والسطور، بعد أن كانت مقيدة محفوظة في الصدور.

.عصر التدوين:

لم تكن علوم القرآن وغيرها من العلوم مدونة في العصر الأول في الكتب والصحف، بل كانت مدونة على صفحات القلوب، وإنما كان المدوّن والمكتوب هو القرآن الكريم فحسب، وذلك لما ورد في الصحيح: من النهي عن كتابة غير القرآن: روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار».
فمن ثمّ تحرّج كثير من الصحابة والتابعين من كتابة وتدوين غير القرآن حتى الحديث الشريف لم يدونوه، واكتفوا فيه وفي علومه بالحفظ والرواية.. إلى أن كان عهد علي رضي الله عنه فأمر أبا الأسود الدؤليّ بوضع علم النحو فكان هذا فاتحة خير لتدوين علوم الدين، واللغة العربية.
وفي العهد الأموي: اتسعت دائرة التدوين والتأليف عن ذي قبل، وفي هذا العهد رأى الخليفة الراشد: عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن يجمع الأحاديث؛ فأمر علماء الأمصار بجمع أحاديث الرسول: مخافة أن يذهب شيء منها بذهاب العلماء، وحتى يتميز الصحيح من السقيم، والمقبول من المردود.
وفي العصر العباسي الأول: اتسعت دائرة التأليف، واتسعت حتى شملت معظم علوم الدين واللغة العربية بل وغير علومها كالفلسفة وفروعها، فقد ترجم كثير من كتب الفلسفة في هذا العصر.
وهكذا نرى: أن حركة التأليف والتدوين نشطت نشاطا قويّا في هذا العصر، وكان لعلوم القرآن من هذا النشاط حظ غير قليل.

.التدوين في علوم القرآن بالمعنى الإضافي أي العام:

وكان من الطبعي أن يكون أول ما يدون من علوم القرآن هو علم التفسير؛ إذ هو الأصل في فهم القرآن وتدبره، وعليه يتوقف استنباط الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام.
فألف في تفسير القرآن سفيان الثوري المتوفى سنة 161 هـ، وسفيان ابن عيينة المتوفى سنة 198 هـ، ووكيع بن الجراح المتوفى سنة 197 هـ، وشعبة ابن الحجاج المتوفى سنة 160 هـ، ومقاتل بن سليمان المتوفى سنة 150 هـ، وكانت تفاسيرهم جامعة لأقوال الصحابة والتابعين.
ثم تلاهم: محمد بن جرير الطبري المتوفى سنة 310 هـ، فألف تفسيره المشهور، وهو من أجل التفاسير، وأعظمها؛ لأنه أول من تعرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، وبذلك يعتبر أول من حاول مزج التفسير بالمأثور بالتفسير بالرأي والاجتهاد.
وكان تفسير ابن جرير الطبري قطرة تلاها غيث كثير، فألف في التفسير بقسميه: المأثور وغير المأثور، خلق لا يحصون، من أجلة العلماء، ما بين مطنب ومتوسط وموجز، وما بين مفسر للقرآن كله ومفسر لبعضه.
وقد شملت هذه الحركة التأليفية كل نوع من أنواع علوم القرآن تقريبا فألف في أسباب النزول، عليّ بن المديني، شيخ البخاري المتوفى سنة 234 هـ.
وفي الناسخ والمنسوخ: أبو عبيد القاسم بن سلام المتوفى سنة 224 هـ، وأبو جعفر أحمد بن محمد النحاس المتوفى سنة 338 هـ، وابن حزم المتوفى سنة 456 هـ.
وألف في مشكله وغريبه أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة المتوفى سنة 276 هـ كما ألف في غريبه ومفرداته أبو عبيدة معمر بن المثنى المتوفى سنة 209 هـ، وأبو عبيد القاسم بن سلام وأبو بكر السجستاني المتوفى سنة 230 هـ والراغب الأصفهاني المتوفى سنة 502 هـ وغيرهم.
وألف في إعرابه: محمد بن سعيد الحوفي المتوفى سنة 430 هـ، وأبو البقاء عبد الله بن الحسين العكبري المتوفى سنة 616 هـ.
كما ألف في إعجاز القرآن: الرماني المتوفى سنة 384 هـ، والخطابي المتوفى سنة 388 هـ، وأبو بكر الباقلاني المتوفى سنة 403 هـ وغيرهم.
وفي مجاز القرآن: ابن قتيبة، المتوفى سنة 276 هـ، والشريف الرضي المتوفى سنة 406 هـ، والعز بن عبد السلام المتوفى سنة 660 هـ.
وفي قراءاته: أبو بكر أحمد بن مجاهد المتوفى سنة 324 هـ، وعلم الدين السخاوي المتوفى سنة 643 هـ، وابن الجزري المتوفى سنة 833 هـ.
وفي أقسامه: ابن قيم الجوزية المتوفى سنة 751 هـ.
وفي أمثاله: أبو الحسن الماوردي المتوفى سنة 450 هـ.
وألف في جدله: نجم الدين الطوفي المتوفى سنة 716 هـ.
وفي فضائله: أبو عبيد المتوفى سنة 224 هـ، والنسائي المتوفى 303 هـ، وابن كثير المتوفى سنة 774 هـ، إلى غير ذلك من المؤلفات المتكاثرة، التي تناولت كل نواحي القرآن العديدة.
وقد سلك هؤلاء العلماء في تأليفاتهم طريقة الاستيعاب والاستقراء لأجزاء الأنواع التي ألفوا فيها، فمن دوّن في: مجاز القرآن، يتتبع كل آية فيها مجاز، ومن يؤلف في: أمثاله، يتتبع كل آية فيها مثل، ومن يؤلف في:
أقسامه، يتتبع كل آية فيها قسم، حتى تكونت من كل ذلك ثروة ضخمة في: علوم القرآن، وبحسبك أن تتناول فهرسا لمكتبة من المكاتب العامة، وستجد ما يبهرك، وأن المؤلفات التي تدور في فلك (القرآن) في العصور المتعاقبة تملأ خزانة كبيرة فسيحة.